أخبار وطنية سقوط الرموز وأزمة التعليم والأخلاق: حين تفرغ الروح من القيم.. قراءة فلسفية وتربوية في تحولات القيم وسقوط المرجعيات
نشر في 07 أكتوبر 2025 (11:16)
بقلم بهجة بالربيع بنرڨية
تعيش مجتمعاتنا المعاصرة واحدة من أعقد أزماتها: أزمة لا تقف عند حدود السياسة أو الاقتصاد، بل تضرب بجذورها في الوعي الجمعي، والبنية القيمية، والمنظومة التربوية. إنها أزمة مركبة من سقوط الرموز، واهتراء التعليم، وتدهور الأخلاق، وهي أوجه لخلل عميق ينذر بتفكك المجتمعات من داخلها، حيث تُغيب القدوة، ويمتزج الخطاب بالصواب، وتصنع رموز من وهم، رموز جوفاء تصبح المثل.
أولًا: سقوط الرموز… موت الأب الثقافي
يحيل مفهوم "سقوط الرموز" إلى تآكل المرجعيات التقليدية التي كانت تؤطر الوعي الجمعي، وتوفّر نموذجًا يُحتذى. فقد كانت الرموز، سواء أكانت دينية، أو فكرية، أو أسرية، أو تعليمية، تمثل ما سمّاه جاك لاكان بـ"الأب الرمزي" – ذلك الصوت الذي ينظم الرغبات ويضبط السلوك عبر سلطة رمزية قائمة على المعنى. لكن في زمن ما بعد الحداثة، ومع صعود النزعة الفردانية والانفجار المعلوماتي، تعرّضت هذه الرموز إلى التفكيك النقدي الذي مارسه فلاسفة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا ضد السلطة والمعرفة والمؤسسات، إضافة إلى: الهجوم الإعلامي الممنهج الذي جعل من الفضائح والانحرافات مادة للاستهلاك العام.
البدائل الزائفة التي طرحتها السوشيال ميديا من خلال "رموز مؤقتة" تفتقر إلى العمق، لكنها تمتلك أدوات الجاذبية. لم تعد الأم والأب، أو المعلم، أو رجل الدين، أو المفكر – يحملون الهيبة ذاتها. انهار "الطابع القدسي" الذي كان يحيط بهذه الشخصيات، فأصبح الشك هو الأصل، والتهكم هو القاعدة، وفقد الناس البوصلة.
ثانيًا: أزمة التعليم… تآكل المعنى
في تحليله لمشكلة التعليم، يتحدث إيفان إيليتش في كتابه "مجتمع بلا مدارس" عن كيف أن المؤسسات التعليمية باتت تنتج "عجزًا مبرمجًا"، حيث لم تعد المدارس تصنع العقول، بل تسجن الأفراد داخل أنظمة من الحفظ والتكرار والخضوع.
أما في السياق العربي، فيمكن القول إن التعليم فقد صلته: بالواقع: حيث بقيت المناهج جامدة، موروثة، بعيدة عن هموم العصر. وأصبح التركيز على التفوق الرقمي، لا على بناء الضمير الأخلاقي. بالحوار الديني والفلسفي: حيث تم تغييب التفكير النقدي والروحي لصالح التلقين. لقد حذّر جون ديوي، رائد الفلسفة التربوية، من تعليم يخلو من الأخلاق، قائلًا:
"كل تعليم لا يصب في بناء الأخلاق هو خطر على المجتمع."
ولعل أبرز مظاهر هذه الأزمة: تحوّل التعليم إلى "خدمة" لا "رسالة". فقد المعلم دوره كقدوة، وأصبح مجرد ناقل معرفة. ثالثًا: الدين والأخلاق داخل المؤسسات التعليمية
يرتبط الدين، في سياقه التربوي، بترسيخ الأخلاق كمبادئ سامية، لا كقواعد جامدة. فالدين ليس مجرد شعائر، بل منظومة قيمية تشكل وعي الإنسان وتضبط سلوكه تجاه نفسه والآخر. لكن علاقة الدين بالتعليم اليوم تشهد اختلالًا خطيرًا: إذ احتكرته مجموعات متسيسة تستهدف أبناء الشعب المنشغل عن أبنائه بالسعي لكسب لقمة العيش. وتم تهميش الدين من الحياة العامة تحت دعوى الحياد، ما أدى إلى إفراغ الدين من تأثيره الأخلاقي. بل أصبح أداة تفرقة وتجهيل، وأحيانًا دعوة إلى العنف، من خلال بعض المنابر ومنصات التواصل.
لقد تحوّل الدين في بعض المدارس إلى عقوبات ونواهي، لا إلى مجال حواري حيوي. كما تم استخدام الخطاب الديني كأداة سلطة لا كوسيلة وعي، مما سهّل استقطاب المراهقين والشباب الثائر على الفقر والتهميش. تحدث الفيلسوف إيمانويل كانط عن الأخلاق بوصفها "واجبًا داخليًا"، وليس استجابة لعقاب أو طمعًا في ثواب، وهو ما يتلاقى مع جوهر الخطاب الديني الحقيقي. لكن حين تتحوّل الأخلاق في التعليم إلى أوامر دون وعي، تنهار فاعليتها. ولعل أخطر ما نتج عن هذا الانفصال بين الدين والأخلاق هو إنتاج أجيال تعرف الصواب، لكنها لا تمارسه، لأنها لم تعِ أبعاده القيمية.
رابعًا: رمزية الأب والأم… من السلطة إلى الهامش
في قلب هذا المشهد المتأزم، تأتي الأسرة كأولى ضحايا سقوط الرموز. لقد كانت الأم تمثل الملاذ القيمي والأخلاقي والوجداني، والأب يمثل السلطة التوجيهية. لكن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية أدت إلى: تغييب حضور الوالدين بسبب العمل أو الانشغال. تقويض سلطتهما بفعل تأثير الإعلام والسوشيال ميديا. فعجزا تحت ضغوط الحياة عن تقديم أنفسهم كنماذج حقيقية. إن مفهوم "الطاعة" لم يعد يحمل معناه القديم القائم على الثقة والحب، بل أصبح يُنظر إليه كقيد على "الحرية الفردية"، مما أنتج أبناءً بلا مراجع، وأهلًا بلا سلطة رمزية. كتب إريك فروم في كتابه الخوف من الحرية أن الحرية غير المؤطرة بقيم أو مسؤولية تتحول إلى عبء، وقد يكون هذا ما يعيشه الأبناء اليوم.
خامسًا: النفاق الديني… تديين الظاهر وتجريف الباطن
في عمق التحولات القيمية، تبرز ظاهرة النفاق الديني كأحد أكثر أشكال الخلل فتكًا. إنه التظاهر بالتدين في الخطاب، مع غياب جوهر الأخلاق في السلوك، بل وتحويل الدين إلى غطاء لأغراض سلطوية أو انتهازية. لقد أفرغ النفاق الديني القيم من محتواها، حيث تُرفع الشعارات الدينية في المجالس والخطب، بينما تُمارس المحسوبية والفساد والتمييز في الواقع. لم يعد التدين مرتبطًا بالإحسان والصدق، بل أُعيد تعريفه بطريقة سطحية تركّز على المظهر دون الجوهر. قال مالك بن نبي:
"إن مشكلة المسلم اليوم ليست في ضعف إيمانه، بل في ازدواجية شخصيته بين ما يؤمن به وما يعيشه."
وتكمن خطورة هذه الظاهرة في أنها: تزرع الشك في الخطاب الديني. تُفرّغ المؤسسات من مصداقيتها القيمية. تشرعن الظلم باسم الدين. وقد تسرب هذا النفاق إلى مؤسسات الدولة، حيث: تُستخدم الفتاوى لتبرير قرارات لا تحمل بعدًا أخلاقيًا. تُمنح الشرعية الدينية لمواقف سلطوية، دون اعتبار لمقاصد الدين. تُعيّن شخصيات دينية بناءً على الولاء لا الكفاءة. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
"لو سكت الجاهل ما اختلف الناس."
إن هذا الواقع يُنتج أجيالًا تربّت على الانفصامبين القول والفعل، مما يقتل الثقة، ويغذي العدمية. يقول عبد الوهاب المسيري:ما الحل لسنا أمام أزمة منفصلة العناصر، بل أمام نظام من التفكك يتطلب حلولًا عميقة لا تجميلية. فإعادة الاعتبار للرموز، والتعليم، والأخلاق، لا تكون بشعارات بل بقرارات وتغييرات منهجية:"حين يُفرغ الدين من محتواه القيمي، يتحول إلى أداة في يد السلطة، لا إلى معيار لمساءلتها."
1. إصلاح التعليم جذريًا، ليصبح مجالًا للتفكير، لا التلقين.
2. إدماج الدين في المدرسة لا كمادة، بل كمصدر روحي وأخلاقي يدعو للتفكير.
3. استعادة هيبة الأسرة عبر الدعم الثقافي والاقتصادي، وتعزيز الوعي التربوي.
4. إسقاط الرموز الوهمية، وإحياء الرموز الحقيقية وتقديمها في الإعلام بوصفها قدوات واقعية، لا ملائكة مثالية.
5. مواجهة النفاق الديني بربط الدين بالضمير، وتحصين المؤسسات من التوظيف الديني.